فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَعِبَادُ الرحمن} كلام مستأنف لبيان أوصاف خاص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز وجل وإضافتهم إلى الرحمن دوي غيره من أسمائه تعالى وضمائره عز وجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعمًا عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق.
وفي ذلك أيضًا تعريض بمن قالوا: {وما الرحمن} [الفرقان: 60] والأكثرون أن عبادًا هنا جمع عبد، وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني {عِبَادِ} بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب، وقال الراغب: العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل.
وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إِحسان الله تعالى عليه.
قيل: وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز وجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ} [الكوثر: 2] وقرأ الحسن {وَعَبَدَ} بضم العين والباء وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه ** اسود الجلدة من قوم عبد

وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان:
الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى: {الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} والهون مصدر بمعنى اللين والرفق.
ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير {يَمْشُونَ} والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرًا وبطرًا، وروي نحو هذا عن ابن عباس. ومجاهد. وعكرمة. والفصيل بن عياض. وغيرهم، وعن الإمام أبني عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشى الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر.
وأخرج الآمدي في شرح ديوان الأعشى بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلامًا يتبختر في مشيته فقال له: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله تعالى.
وقد مدح الله تعالى أقوامًا بقوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} فاقصد في مشيتك.
وقيل: المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم.
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن {هَوْنًا} بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالًا لا غير.
والظاهر أنه عربي بمعنى اللين والرفق.
وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح.
ومنه الحديث «المؤمن هين لين» والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم.
نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل.
واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم.
والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم.
وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب.
قم قال: وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هونًا فباطل فكم ماش هونًا رويدًا وهو ذنب أطلس.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتكفا في مشيه كإنما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الآية.
وفيه بحث من وجهين فلا تغفل.
وقرأ اليماني والسلمي {يَمْشُونَ} مبنيًا للمفعول مشددًا {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

{قَالُواْ سَلاَمًا} بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم.
وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلى الإنسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلمًا منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم ولا شر.
فسلامًا مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر.
والتقدير نتسلم تسلمًا منكم والجملة مقول القول.
وإلى هذا ذهب سيبويه في اكلتاب ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين.
وقال الأصم: هو سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه {سلام عَلَيْكَ} [مريم: 47] ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب.
وقال مجاهد: المراد قالوا قولًا سديدًا.
وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد هاهنا يقولون هذه اللفظة لا أنه يقولون قولًا ذا سداد بدليل قوله تعالى: {سلام عَلَيْكُمُ لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
ورده صاحب الكشف بأن تلك الآية لا تخالف هذا التفسير فإن قولهم: سلام عليكم من سداد القول أيضًا كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو ما يؤدي مؤداه أيضًا من كل قول يدل على المتاركة مع الخلو عن الإثم واللغو وهو حسن لا غبار عليه.
وفي بعض التواريخ كما في البحر أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفًا عن علي كرم الله تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له: إنما تدعى هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكى ذلك على المأمون ثم قال: ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به قال: كان يقول لي: سلامًا سلامًا فقال المأمون: يا عم قد أجابك بابلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزي إبراهيم واستحي عليه من الله تعالى ما يستحق، والظاهر أن المراد مدحهم بالأغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية.
ونقل عن أبي العالية واختاره ابن عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال.
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وقياما} بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم.
وكان الحسن إذا قرأ ما تقدم يقول: هذا وصف نهارهم وإذا قرأ هذه قال: هذا وصف ليلهم والبيتوتة أن يدركك الليل نمت أو لم تنم و{رَّبُّهُمْ} متعلق بما بعده.
وقدم للفاصلة والتخصيص.
والقيام جمع قائم أو مصدر أجرى مجراه أي يبيتون ساجدين وقائمين لربهم سبحانه أي يحيون الليل كلا أو بعضا بالصلاة، وقيل: من قرأ شيئًا من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدًا وقائمًا، وقيل: أريد بذلك فعل الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء، وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في عموم الآية.
وبالجملة في الآية حض على قيام الليل في الصلاة.
وقدم السجود على القيام ولم يعكس وإن كان متأخرًا في الفعل لأجل الفواصل ولأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه سبحانه وآباء المستكبرين عنه في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ} [الفرقان: 60] الآية.
وقرأ أبو البرهسم {سجودًا} على وزن قعودًا وهو أوفق بقيامًا.
{والذين يَقُولُونَ} في أعقاب صلواتهم أو غي عامة أوقاتهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازمًا كما أخرجه الطستي عن ابن عباس وأنشد رضي الله تعالى عنه في ذلك قول بشر بن أبي حاتم:
ويوم النسار ويوم الجفار ** كانا عذابًا وكانا غرامًا

ومثله قول الأعشى:
ان يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ** ـط جزيلًا فإنه لا يبالي

وهذا اللزوم إما للكفار أو المراد به الامتداد كما في لزوم الغريم وفي رواية أخرى عنه تفسيره بالفظيع الشديد وفسره بعضهم بالمهلك، وفي حكاية قولهم هذا مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى ربهم عز وجل في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كقوله تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} [المؤمنون: 60] وفي ذلك تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء، والظاهر أن قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا} الخ من كلام الداعين وهو تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حال عذابها.
وكذا قوله تعالى: {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وهو تعليل لذلك بسوء حالها في نفسها.
وترك العطف للإشارة إلى أن كلا منهما مستقل بالعلية، وقيل: تعليل لما علل به أولا وضعفه ابن هشام في التذكرة بأنه لا مناسبة بين كون الشيء غرامًا وكونه ساء مستقرا.
وأجيب بأنه بملاحظة اللزوم والمقام فإن المقام من شأنه اللزوم، وقيل: كلتا الجملتين من كلامه تعالى ابتداء علل بهما القول على نحو ما تقدم أو علل ذلك بأولاهما وعللت الأولى بالثانية، وجوز كون احداهما مقولة والأخرى ابتدائية والكل كما ترى.
و{سَاءتْ} في حكم بئست والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي وهو الرابط لهذه الجملة بما هي خبر عنه إن لم يكن ضمير القصة.
و{مُّسْتَقِرٌّ} تمييز وفيها ضمير مبهم عائد على {مُسْتَقِرًّا} مفسر به وأنت لتؤويل المستقر بجنهم أو مطابقة للمخصوص.